بين القوة المعنوية والقوة المادية

وما هند إلا مهرة عربية
                 سليلة أفراس تحلّلها بغل
فإن ولدت فحلا فللّه درها
          وإن ولدت بغلا فجاء به النغل
قائل هذين البيتين هند بنت المهلب التي تزوجها الحجاج بن يوسف الثقفي وكانت أجمل نساء زمانها وأحسنهنّ أدبا وكانت شاعرة وجعل شرط جزائها مئتي ألف درهم،ولكنها لم تسعد معه لأن زواجها كان وليد الخوف من سطوة الحجاج.
دخل عليها الحجاج يوما وهي أمام المرآة ولم تشعر به وكانت تنشد البيتين المذكورين أعلاه.
وما كان من الحجاج إلا أن يخرج ويفكر في طريقة إلى إهانتها فكلّف عبد الله بن طاهر بطلاقها وسلّم له المبلغ المذكور على أن يطلقها بكلمتين،جاءها الوكيلوقال لها:كنت فبنت أي كنت زوجة فصرت مطلقة طلاقا بائنا، فقالت قل له: كنّا فما هنَّا و بنّا فما حزنّا.والله لا أندم على فراقه،احتفظ بهذا المبلغ هدية بشارتك لي بخلاصي من كلب بني ثقيف.
تناقل الشعراء خبر الحادثة وسمع بقصتها الخليفة عبد الملك بن مروان سيد الحجاج ووليً نعمته وبلغه ما بلغه عن حسنها وأدبها فأرسل يخطبها فأرسلت إليه رسالة كتبت فيها:«الثناء على الله والصلاة علي نبيّه محمد صلي الله عليه وسلّم،أما بعد،فاعلم يا أمير المؤمنين أن الكلب ولغ في الإناء» وهي تقصد الحجّاج،فأجابها بالحديث النّبوي القائل:«إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب»،فاشترطت عليه أن يزفها إليه الحجّاج وهو حافي القدمين وبالملابس التي هو عليها، فوافق وأرسل إلى الحجّاج يأمره بذلك.
ذهب الحجّاج الي بيت طليقته هند وطلب منها أن تتجهّز ولما ركبت واستقرت في هودجها ترجّل وأخذ بزمام البعير يقوده من العراق إلى قصر الخليفة،وجرى في الطريق حوار بينهما انتقمت فيه هند بطريقتها.
ومما قاله الحجّاج:
فإن تضحكي يا هند،رب ليلة
               تركتك فيها تسهرين نواحا
فأجابته:
وما نبالي إذا أرواحنا سلمت
            مما فقدناه من مال ومن نسب
المال مكتسب والعزّ مرتجع
    إذا اشتفى المرء من داء ومن عطب
ولما اقترب الموكب من قصر الخليفة رمت من يدها دينارا على الأرض وقالت له: سقط منّا درهم، فقال لها:بل هو دينار،فقالت: الحمد الله الذي عوّضنا بالدرهم دينارا فناولْنا إياه،فناولها إياه وهو يتجرع الذل والمهانة وهو الذي كان يذلّ معارضيه من الرجال فيسجن بعضهم ويقتل الآخر.
ومن خبث الحجاج أنه قال للخليفة لما دعاه للأكل من طعام الوليمة:ما ربتني أمي على الأكل من فضلات الرجال،وهو يقصد تنفيره من الدخول على هند.
ولم يدخل الخليفة على هند خمسة عشر يوما.
ولما أحست هند أن الحجاج انتصر عليها بمكره تزيّنت وأرسلت جارية لها لدعوة الخليفة للحضور وكلفت جارية ثانية تخبرها إذا ما اقترب الخليفة من غرفتها،فلما اقترب قامت وقطعت عقدها ورفعت ثوبها فاطّلع على بعض مفاتنها ونزلت تجمع حبات العقد وكلما التقطت حبة قالت:سبحان الله،فلما استفسر الخليفة عن سبب تسبيحها قالت:
إن هذا اللؤلؤ خلقه الله لزينة الملوك، فقال: نعم، فقالت:ولكن شاءت حكمته أن يثقبه الغجر (وهي تقصد الحجّاج)،فقال لها: صَدقتِ والله، قبَّح الله من لامني فيكِ،ودَخلَ بها تلك الليلة.
‏ملاحظة:
ـ هذه القصة إحدى ثلاث روايات تحدثت عن سبب طلاق هند من الحجاج وهناك رواية ثانية تعتبر أن السبب هو أن هند سمعت صياح أخيها أثناء تعذيب الحجاج له فصاحت فخشي أن تقتله فطلقها.
وهناك رواية تقول:الحجاج رأى في رؤيا ان عينيه اقتلعتا فأولها بزوجتين من زوجاته وكانت كل منهما تسمى هند فطلقهما ثم تبيّن تفسير الرؤيا بقتل رجلين آخرين.
ونحن لا يهمنا السبب بقدر ما يهمنا المغزى وهو أنه إذا ادعيت القوة يقتلك الضعيف.
ـ ‏يظهر في هذه القصة أن الخليفة شبه بالدينار والحجاج شبه بالدرهم وهذا يدل على أن قيمة الدينار أضعاف قيمة الدرهم لأن الأول من ذهب والثاني من فضة.


تعليقات