إحصائيات

زوار المحفظة

الثلاثاء، 18 أغسطس 2020

هيبة الكتاب والمكتوب

النص
لا أنسى وهلة فتاة ذكية حين دخلت مكتبتي عرضا في بعض الأيام .كانت على شيء من التعليم،وكانت تميل إلى القراءة،ولكنها فوجئت بهذه الكتب المتجمعة،فصاحت على غير ورية منها:"يا سلام!كتب،كتب،كتب،كل هذا كتب!شيء يدوخ!ومالت برأسها كأنها تهرب من دوار ينرها بإغماء.
ألا ترى يا صاحبي،أن هذه الفتاة قد عرفت الكتب،فلم تعرفها جلودا وأوراقا وألوانا تشوق العيون،ولكنها عرفتها كما هي في الحقيقة زحمة من الأفكار والمعارف تشفق منها على رأسها الصغير؟فسألتها: أهذه أول مكتبة
رأيتها حياتك؟ولم تزد على أن تقول:رأيت غيرها كثيرا،ولكني لا أدري لماذا دخت وأنا أنظر إليها هنا؟ فلم أعجب من وهلة الفتاة كما عجبت من صدق إحساسها فالكتب في السوق بضاعة للبيع، والكتب في المدرسة موزعة
بين أيدي الأساتذة والطلاب،ولعلهم مئات،ولعلهم ألوف،فلا توحي إلى الخاطر تلك الزحمة التي ترهق الرؤوس،أما الكتب في حجرة واحدة،في بيت رجل واحد فللفتاة العذر إذا خافت منها على رأسها الدوار!
ولا إخال هه الهيبة للكتاب بعيدة من هيبة المكتوب،عند القبائل الفطرية كما أنبأنا عنها رواد المجاهل الإفريقية فإنهم لا يفهمون هناك كيف يقرأ الرجل الورقة ويفهمها ويعمل بها دون أن يكون فيها طائف من الجان،وقد روى بعض الرحالين أنه أرسل خادمه الإفريقي إلى زوجته على مسيرة ساعات ليطلب بعض الأمتعة والأدوات من بيته فكتب له ورقة وأمره أن يأتيه بجوابها فحمل الورقة مطمئنا ولم يلق إليها كبير
اكتراث ولكنه لما رأى السيدة تقرأها وتراجعها أسلمته أداة من الأدوات المطلوبة فيها خامره الشك وأيقن أنها تستوحي بمراجعة الورقة روحا تفقه عنها ما تسأل عنه في صمت ووقار،فلما أسلمته السيد تلك الأدوات تقبّلها وحملها ولم يخف منها ولكنه تردّد وخاف حين أسلمته السيدة الورقة بالجواب وجملها كمن يحمل ثعبانا يخاف
أذاه أو شيطانا يخاف سخطه وغضبه،وأدى الأمانة بتمامها لأنه في حراسة رقيب ينقل عنه ما يظهره وما يخفيه.
قال صاحبي:ويح الخادم المسكين،لو انطلق عليه عفريت من وراء كل كلمة مخزونة في هذه المكتبة إن سحرة إفريقية على بكرة أبيها لا ينقذونه من ويل هذا السحر المخيف،قلت:أولم يحصل؟-بلى،قد حصل!وقد انهزم السحرة المساكين في وجه هذه العفاريت.
وهل المعركة بين القارة السمراء وبين الوافدين عليها إلا المعركة بين الكتاب وتعويذة السحر القديم؟                                                                                              العقاد 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمكنك التعليق بشرط أن يكون تعليقك له علاقة بالمنشور وليس فيه إساءة.
لا ينشر التعليق إلا بعد موافقتي.

ابحث(ي) هنا